Site icon جريدة الدولة الآن

جدتي وتوفيق عكاشة: حكايات من زمن تنبأ بالمستقبل

 

كتب: هشام عامر

في زاوية دافئة من ذاكرتي، تتراءى لي صورة “جدتي” وهي تتابع بشغف شاشة التلفاز، عيناها معلقتان على برنامج الدكتور “توفيق عكاشة” الشهير على قناة الفراعين، لم تكن جدتي مجرد مستمعة عابرة؛ بل كانت عاشقة لحديثه، تتفاعل مع كل كلمة يقولها، وكأنها تجد فيه صدى لمخاوفها وأملها في مستقبل هذا الوطن، ورغم أن سنوات عديدة مرت على رحيلها، إلا أن هذا الشغف بالتحليلات الإخبارية قد انتقل إليّ، فأصبحتُ أنا أيضًا أجد في متابعة الأحداث الجارية إرثًا غير مرئي منها.

كانت جدتي بسيطة في نظرتها للأمور، ولكنها كانت تمتلك حدسًا فريدًا يجعلها تلمس الحقيقة في أحاديث “عكاشة”، حتى لو بدت للبعض آنذاك مجرد آراء متطرفة أو غريبة، لم تكن تفهم المصطلحات السياسية المعقدة، لكنها كانت تفهم لغة المنطق التي يطرحها، وتدرك أن هناك شيئًا ما في تحليلاته يلامس جوهر الواقع، وربما يتجاوز حدود الزمن الحاضر.

ومع مرور السنوات، ورحيل “جدتي”، وجدت نفسي دون قصد أسير على خطاها، كبرت وتكون لدي شغف مماثل بمتابعة الأخبار، ليس بدافع الفضول فقط، بل بشيء من الوفاء لذاك الجيل الذي آمن أن الوعي بما يحدث حولنا هو أول طريق للنجاة، وبينما كنت أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا، وجدت موجة كبيرة من الفيديوهات القديمة لتوفيق عكاشة تعود إلى الواجهة، وتحظى بمشاهدات وتعليقات بالآلاف، لما تحمله من توقعات صادمة ودقيقة لأحداث نعيشها الآن.

وبعد أن مرت السنون، ومع كل حدث جلل يشهده الشرق الأوسط، بدأت أتساءل: هل كانت جدتي ترى ما لم نره؟ هل كانت تشعر بأن هذا الرجل، الذي يصفه البعض بالمثير للجدل، كان يحمل في طياته رؤى تتجاوز المعتاد؟ هذا التساؤل لم يعد يخصني وحدي، فقد انتشرت مؤخرًا وبشكل لافت على منصات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو قديمة للدكتور توفيق عكاشة، يعود تاريخها لسنوات مضت، تظهر فيها تنبؤاته الدقيقة حول أحداث وقعت بالفعل.

المثير للدهشة هو أن هذه المقاطع تكشف عن قدرة استثنائية على قراءة المشهد الإقليمي والدولي، وتوقع سيناريوهات بدت في حينها مستبعدة أو خيالية، يتحدث عكاشة في هذه الفيديوهات عن صراعات إقليمية محتدمة، وتدخلات دولية، وحتى عن أدوار محددة لدول بعينها في هذه الصراعات، وهو ما نراه يتجسد اليوم أمام أعيننا.

لعل أبرز ما تم تداوله مؤخرًا هو مقاطعه التي يتنبأ فيها بحرب وشيكة بين إسرائيل وإيران، وكيف ستتدخل القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في هذا الصراع بشكل أو بآخر، وبالفعل، شهدت المنطقة تصعيدًا غير مسبوق في الآونة الأخيرة، تبلور في مواجهات مباشرة وغير مباشرة بين الأطراف، ودور أمريكي بارز في محاولة احتواء الأزمة أو توجيه مسارها، هذه التنبؤات، التي قيلت قبل سنوات، تبدو اليوم وكأنها قراءة دقيقة لصفحات من تاريخنا المعاصر.

هذا التزامن المذهل بين ما قاله “عكاشة” وما حدث فعلاً يثير العديد من التساؤلات حول طبيعة الرؤى التي كان يمتلكها، هل كان يعتمد على معلومات استخباراتية دقيقة؟ أم أنه كان يمتلك قدرة تحليلية فائقة تربط بين خيوط الأحداث المتشابكة؟ بغض النظر عن المصدر، فإن هذه التنبؤات تجعلنا نتوقف عند ظاهرة توفيق عكاشة، لا كشخصية إعلامية فحسب، بل كشاهد ربما كان يرى ما هو أبعد من الأفق.

في النهاية، أدرك أن “جدتي” لم تكن مجرد مستمعة لبرنامج تلفزيوني، بل كانت تمتلك بصيرة خاصة سمحت لها بالتقاط إشارات لم يلتفت إليها الكثيرون، واليوم، بينما أتابع الأخبار وأرى تنبؤات توفيق عكاشة تتحقق، لا أستطيع إلا أن أبتسم وأتذكر جدتي، تلك المرأة البسيطة التي أحبت مشاهدة الأخبار وأحبت حديث “توفيق عكاشة”، وكأنها كانت تعلم أن التاريخ سيكشف يومًا ما صدق رؤيته.

Exit mobile version