Site icon جريدة الدولة الآن

حين يختار القدر

 

بقلم : نورهان أبوالمعالي

حين يختار القدر، تتغير مسارات الحياة دون استئذان، وتسقط حسابات البشر أمام حكمة لا نراها كاملة، لكنه دائمًا يعرف الطريق الذي نعجز عن رؤيته، يأخذ منا ما نتمسك به، ويمنحنا ما لم نكن نطلبه، فنظن أن الخسارة كسرتنا، بينما هي في الحقيقة أعادت تشكيل أرواحنا، في لحظات الصمت والخذلان نفهم أن القدر لا يقسو، بل يعلّم، ولا يغلق بابًا إلا ليفتح آخر أكثر اتساعًا، لأن ما كُتب لنا سيصل مهما تأخر، وما لم يُكتب لن ينفع معه كل التعلّق ، ففي كثير من الأحيان يقف الإنسان أمام مواقف يظنّ فيها أنه يعرف الطريق الأفضل لنفسه، فيتمسّك باختيارات يعتقد أنها الخير الذي سيغيّر حياته للأفضل، ولكن مع مرور الوقت تكتشف الحقيقة الصادمة: ما كنت تراه خيرًا لم يكن سوى بابًا لمتاعب أكبر، وما كنت تظنه شرًّا كان يحمل داخله حكمة خفية وحماية من قدرٍ لم تكن تتحمله.

فالحياة لا تُفصح دائمًا عن أسبابها من اللحظة الأولى أحيانًا تُبعدك عن أشخاص كنت تظن أن وجودهم مهم، وتغلق أبوابًا كنت ترى فيها مستقبلك، وتضعك في طرق لم تخترها أنت ومع ذلك، يأتي الزمن ليكشف أن البعيد كان أذى، وأن الممنوع كان إنقاذًا، وأن التأخير كان ترتيبًا لشيء أفضل.

المفارقة أن الإنسان بطبيعته يرى اللحظة ولا يرى الصورة الكاملة يحكم بعقله واحتياجه وعاطفته، بينما ترتّب له الحياة ما لا يُدركه إلا لاحقًا، لذلك كثيرًا ما تُثبت الأيام أن الخير ليس دائمًا فيما نريده، وأن الشر ليس دائمًا فيما نخاف منه، بل إن الحكمة الحقيقية تكمن في التسليم بأن ما نمرّ به جزء من رحلة أكبر منّا، فلا تتعجل الحكم على ما يحدث لك، فقد يكون في المنع عطية، وفي الفقد رحمة، وفي العثرة حماية، وما نراه اليوم شرًا قد نكتشف غدًا أنه أعظم خير حصلنا عليه دون أن نعلم.

كل مرة نحزن على خيرٍ فاتنا أو نلوم القدر على بابٍ أغلقه، يتبيّن لنا لاحقًا أن ما ظنناه شرًا كان بداية جديدة، وأن ما اعتقدناه نهاية كان حماية ولطفًا خفيًّا. فالحياة لا تُدار بما نهوى، بل بما يصلحنا، حتى وإن بدا قاسيًا في بدايته.

وفي منظورٍ إيمانيّ، يذكّرنا الله دائمًا بأنّ ما نراه بأعيننا ليس الحقيقة الكاملة، وأنّ الإنسان قد يطلب شيئًا يظنه خيرًا، بينما يحمل له الشر، كما قال تعالى:
﴿وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

هذه الآية وحدها كفيلة بأن تهدّئ قلوبنا أمام كل ما نعتقد أنه شرّ، وأن تذكّرنا أنّ تدبير الله أعظم من اختياراتنا. كم من باب أغلقه الله فكان رحمة، وكم من أمرٍ صرفه عنّا فكان حماية لم نُدركها إلا بعد حين.

الإيمان الحقيقي يظهر عندما نقبل قضاء الله بعين اليقين لا بعين الظن، وعندما نُسلّم بأنّ الله لا يُدبّر لعبده إلا خيرًا، حتى وإن غاب عنا وجه هذا الخير. فالمؤمن لا يرى الأحداث كما يراها غيره؛ هو يؤمن أن كل تأخير حكمة، وكل منع لطف، وكل تغيير في الطريق هو توجيه إلهي نحو ما يُصلح قلبه ودنياه وآخرته.

وقد يكون ما نطلبه خيرًا بالفعل، لكنّ وقته لم يحن بعد. فالله سبحانه لا يمنع الخير عن عباده، لكنه يقدّره في اللحظة الأنسب لهم، لا في اللحظة التي يتعلّقون بها. فربّ أمرٍ تتعجّله النفس، ولو أُعطي لها الآن لكان ضررًا عليها، بينما يكون خيرًا عظيمًا حين يأتي في وقته الذي اختاره الله. قال تعالى:
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.
فالخير لا يُقاس بسرعة وصوله، بل يُقاس بحكمة توقيته، وما يؤخّره الله اليوم قد يكون أعظم عطاياه غدًا.

يكفيني أنني طوال الطريق لم أفعل ما أندم عليه، ولم أساوم على كرامتي، ولم أجرح كبريائي أو أنال من شرفي ونزاهتي. فما يأتي إليّ سيكون ثمرة تعبي وجهدي، وبتوفيق من الله، وما لم يُكتب لي فلن أتحسر عليه، لأن يقيني أن الخير فيما اختاره الله، وأن خسارة اليوم قد تكون حكمة الغد.

Exit mobile version