ايمان جابر
أتعْلمُ هذه المقولة التي يكررها بعض الناس والدعاة الجدد: «واحد كبر واتخرج واشتغل واتجوز وخلف ومات».. قصة حزينة قصيرة!
يحاولون بذلك أن يدفعوك دفعاً لكي لا تكون هذا النموذج الذي يمثِّل أكثر من 90% من سكان العالم، يريدون منك أن تكون متميزاً، مختلفاً، ألا تعيش نصف حياة تنتهي بموتك ولا يذكرك أحدٌ بعدها.. يحاصرونك ويتهمونك بأنك كسول أو عالة؛ ﻷن حياتك عبارة عن عمل وزوج وأولاد فقط، وستنتهي كحياة ملايين الآخرين. أنت لا شيء، غير مرئي، لمجرد أنك إنسان عادي!
في قصة The fault in our stars، كانت أكبر مخاوف البطل المراهق الفناء؛ أن يموت كملايين الآخرين، ويذهب في عالم النسيان، وعندما اجتاح السرطان جسده، تألَّم بشدة؛ ﻷن أمامه أياماً قليلة في الحياة وسيفنى دون أن تتاح له الفرصة ليتميز في شيء.
كم فرداً منا يجتاحه هذا الخوف؟ أن يموت دون أن يترك أثراً، أن يكون مجرد شخص عادي مر من هنا.
ولكن، أليس الأمر نسبياً؟ هذا ما تحاول بطلة الفيلم -المصابة أيضاً بالسرطان- شرحه لحبيبها. «أنت مميز بالنسبة لي وبالنسبة ﻷبويك وﻷصدقائك، لست شخصاً عادياً بالنسبة لنا، ولن ننساك». ويظهر هذا لنا جلياً بعد وفاته؛ حيث وصفت وجعها لفقده بأن شدته تفوق شدة الألم الذي أحست به عندما أوشكت على الموت في إحدى نوبات السرطان.
كم شخصاً «عادياً» لديه شخص أو أكثر سيتألم لفقده بهذا الشكل؟ فكيف يكون «عادياً» إذن؟
الأثر -في رأيي- لا يشترط أن يكون كِتاباً تكتبه، أو عملاً فنياً تقوم به، أو رسالة رائدة، أو مشروعاً عظيماً، أو أي شيء سيُخلِّدك به التاريخ بعض سنوات أو مئات السنوات. الأثر قد يكون عملاً «روتينيّاً» ولكنك تؤديه بإخلاص؛ وقد يكون «وقفة جدعنة (مروءة)» مع صديق، وقد يكون ابناً أو ابنة لا يتخيل حياته من دونك؛ وقد يكون أباً أو أماً جعلت لحياته معنى بوجودك فيها؛ وقد يكون زوجاً أو حبيباً لمست روحه.. قد يكون أي شيء فعلته برحمة ونية صافية لوجه الله فكان أثراً طيباً.
قديماً، وخاصة في الصعيد، كان الرجال يحبون إنجاب الذكور؛ حتى يستمر نسلهم واسم العائلة، رغم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعش له أولاد ذكور، ورغم ذلك خلَّد الله ذكره في كل أذان، وﻷن التفكير بأن ذكرك يخلد فقط بالأولاد تفكير خاطئ، فأصبحنا نرى تطرفاً في الاتجاه الآخر: شهادتك، وعملك الروتيني، وأولادك سيجعلون منك إنساناً عادياً بلا أثر، ولا بد من أن تحارب هذا أو تتجاهله، وتلهث لتصنع أثراً (تحت مسمى بالطبع أنك صاحب رسالة سامية، وهذا كله من أجل نفع الناس.. إلخ).
ولكن، ما بين التطرف هنا وهناك، توجد كل الألوان، لا يوجد لون واحد مثالي لكل الناس. فالأثر الذي تتركه في الناس -(سواء كان كمّاً أو كيفاً)- كأي شيء في الدنيا رزق، وهو ليس فقط رزقك؛ بل رزقهم أيضاً.
ربما كان أثرك في شخص واحد فقط (كابنك) عميقاً وكثيفاً، وربما كان أثرك في آلاف الناس سطحياً وموزَّعاً، وربما كان الاثنين.
لسنا كلنا أصحاب مواهب ومهارات قيادية وإبداعية (هذا أيضاً رزق)، في النهاية هناك حدود لما يمكن أن تفعله في إطار قدراتك، وكذلك هناك التوفيق.
ومن غير المنصِف -إذا كنتَ صاحب موهبة- أن تنظر نظرة دونية إلى من لم يحظَ بها وتصرخ فيهم بأن قصة حياتهم قصة حزينة قصيرة؛ ﻷنهم ناس عاديون بالنسبة لك.
في الواقع، إنه قد يكون لهم أثر أعمق بكثير منك في نفوس أحبابهم.
ولكن بصرف النظر عن عُمق وكمّ الأثر، أتعْلمُ -يا صديقي- ما هو المرعب حقاً؟ هو هذه الآية: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً».
هذه هي فعلاً القصة الحزينة.. أن يُحبَط عملك وأثرك يوم القيامة ولا يصبح لك أي وزن، هذا هو الفناء الحقيقي