منذ اتفاقية “بريتون وودز” عام 1944، والمنظومة العالمية تتدثر بعباءة الدولار الأخضر؛ فهو ليس مجرد عملة للتبادل، بل هو العمود الفقري للهيمنة الأمريكية، والسلاح الناعم الذي صمتت أمامه المدافع أحياناً. لكن اليوم، وبينما تتصاعد أصوات “التمرد النقدي” من بكين إلى الرياض، ومن موسكو إلى برازيليا، يبدو أن العالم قد سئم العيش في “جلباب العم سام”. نحن لا نتحدث هنا عن أزمة عابرة، بل عن زلزال جيوسياسي يعيد رسم خارطة القوة.
– سلاح العقوبات: السحر الذي انقلب على الساحر
لسنوات طويلة، كان الدولار يُعتبر “الملاذ الآمن” الأوحد. لكن واشنطن، في نشوة قوتها، حولت هذا الملاذ إلى “سلاح سياسي” فتاك. عندما قررت الولايات المتحدة تجميد احتياطيات روسيا من النقد الأجنبي وفصلها عن نظام “سويفت”، لم تكن تضرب موسكو فحسب، بل كانت ترسل إنذاراً مبكراً لكل عواصم العالم: “أموالكم ليست ملككم إذا اختلفتم معنا سياسياً”.
هذا “التسييس” المفرط للدولار دفع حتى حلفاء أمريكا قبل خصومها للتساؤل عن جدوى الارتهان لعملة يمكن مصادرتها بقرار من البيت الأبيض. لقد بدأ العالم فعلياً في رحلة “إلغاء الدولرة” (De-dollarization) ليس كخيار ترفي، بل كآلية للدفاع عن السيادة الوطنية.
– بريكس والزحف نحو التعددية…
لم يعد الحديث عن بدائل الدولار مجرد نظريات في أروقة الجامعات؛ فمجموعة “بريكس” التي تضاعف حجمها، أصبحت اليوم تمثل ثقلاً اقتصادياً يتجاوز دول السبع الكبرى (G7) من حيث القوة الشرائية. حينما نرى الصين تشتري النفط باليوان، والهند تتبادل السلع بالروبية، والبرازيل تدعو لعملة موحدة لأمريكا اللاتينية، فنحن أمام مشهد تاريخي: العالم يكسر القيد الأحادي.
إن التحالفات الجديدة لا تسعى بالضرورة لتدمير الدولار، بل لتهميشه. إنهم يبنون “نظاماً موازياً” يضمن استمرار تدفق التجارة بعيداً عن أعين الخزانة الأمريكية، وهو ما يمثل أكبر تهديد وجودي للنفوذ الأمريكي منذ نهاية الحرب الباردة.
– الثورة الرقمية: المسمار الأخير في النعش؟
بجانب التحركات السياسية، تأتي التكنولوجيا لتوجه ضربة تقنية للنظام القديم. العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) بدأت تظهر كبديل تقني يتجاوز الوساطة الأمريكية. هذه الأنظمة ستسمح للدول بالتبادل المباشر (Peer-to-Peer) في أجزاء من الثانية، دون الحاجة للمرور عبر البنوك المراسلة في نيويورك أو لندن، مما يجعل العقوبات التقليدية مجرد حبر على ورق.
– فوضى ما بعد العرش…
إن سقوط الدولار عن عرشه لن يحدث كـ “انفجار” مفاجئ، بل كـ “تآكل” مستمر. نحن مقبلون على عالم “متعدد الأقطاب نقدياً”، حيث تتنافس عدة عملات إقليمية على الريادة.
الخلاصة الجريئة: العصر الذي كانت فيه ورقة خضراء تُطبع في واشنطن تتحكم في مصير رغيف الخبز في القاهرة أو سعر الوقود في باريس، يلفظ أنفاسه الأخيرة.
السؤال الحقيقي ليس “هل سينتهي زمن الدولار؟”، بل “هل نحن مستعدون للهزات الارتدادية التي ستعقب انهيار النظام الذي أدار كوكبنا لثمانية عقود؟”. لقد بدأت اللعبة الكبرى، والبقاء فيها لن يكون للأقوى عسكرياً، بل للأكثر مرونة اقتصادياً.