خالص..بالص..مالص..؟؟!
في تحقيقات وحوارات
10,648 زيارة
بقلم:أحمد العش.
“نكتب لنرتقي بعقول الأمم، ونموت ليحيا بنا القلم” هكذا كان حال معظم كُتَّابِ مجتمعنا العريق، الواعي المثقف، قبل أن يملئ(التغريب) عقول الشباب، وتنهارُ أقلامُ الكُتَابْ، إلا من رحم الله منهم…أفنوا حياتهم لتوعية العقول وتفتيح الأذهان حتى أتاهم اليقين.
يعتبر الفاطميون هم أول من بنوا سوراً حول العاصمة فى مصر الإسلامية، فكانت (الفسطاط) من قبلهم مدينة بلا أسوار لفترة طويلة من الزمن، وكان الغرض الأساسي من بناء السور ليس الدفاع عن المدينة فحسب، ولكن لإحكام السيطرة على مداخل المدينة فلا يدخل التُجارُ ببضائعهم إلى أسواقها إلا بعد دفع الضريبة!
كانت أبواب المدينة تُفْتَح مع أولِ ضوءٍ للفجر، وتغلقُ بعد المغربِ يومياً، ويظل التُجارُ يحتشدون على الأبواب، ويبيتون بجانبها ليلاً فى إنتظار فتح مصارعها صباحاً ، وكان التُجارُ منهم من يدفع الضريبة بالكامل، فيحصل على صكٍ بأنه (خالصٌ) الضرائب، وله أن يبيع بضاعته فى أي سوقٍ أو أي وكالةٍ شاء، ومنهم من كان يرى أن الضرائب المفروضة كثيرة، فكان يمنح الجنود الواقفين على البوابة لكل واحد (بلاصاً) من العسل، أو المش، أو ماشابه، فيسمح له الجنود بالمرور، وحين التفتيش يقولون لبعضهم البعض…اتركه فهو (بالص) أي منحهم بلاصاً أو أكثر.
ومن التجار من كانت تجارته صغيرة لا تتعدى حمولة حمارٍ أو جملٍ واحدْ، فكان يسير بها بجوار قافلة ممن دفعوا الضرائب فيتهرب من الضريبة، فلو شاهده الجنود فى شوارع المدينة يسألون: أهو (خالص)؟.. أم (بالص)؟؟…، لتأتي الإجابة من أحدهم: لا هذا ولا ذاك.. لعله (مالص)!.. أى تملَّص من دفع الضرائب!.. فيذهبون إليه مطالبين إياه بتقديم صك الدفع…!
ليست هذه قضيتنا ولكن أحببت أن أعرض عليك تلك القصة حتى تتضح لك الصورة كاملة، ويتجلى لك معنى عنوان تلك المقالة التي بين يديك، والتي كتبتها لأبين لك أنواع (الكُتَابِ) في هذا الزمان، فمنهم من هو “خالص” ومنهم من هو (بالص) ومنهم من هو (مالص)..؟!
فال(خالص) من (الكُتَابِ) في هذا الزمان، هو من يدفع الضريبة كاملة دون أن ينظر إلى أي نتيجة، فتعامله مع الكِتابَةِ على أنها رسالة لابد من أدائها، وأمانة على عاتقه لابد أن يؤديها إلى أهلها، تلك الضريبة؟!….أيامٌ وسنينَ من عمره، تحترق دمائه فيها من أجل أن ينير طريق المغيبين، أما عن (البالص) منهم فدائماً ما يخشى النتائج ودائما ما يكتب من أجل إشباع رغبات الناس حتى ولو كانت دنيئه، دائماً ما يقيم نفسه بحجم المتابعين والتفاعلات التي تأتي على منشوراته عبر شبكات التواصل الإجتماعي أو عن طريق بيع المزيد من النسخ لمؤلفاته التي يُرثى لها، ودائماً ما يدفع المال لمن يلمعه ويضخم في صورته دون أن يدفع أي ضريبة لذاك النجاح الزائف السحيق أو يطور من ذاته ومهاراته.
وهناك النوع “الثالث” وهو (المالص) المحسوب على طائفة(الكُتَابِ) ، والذي في الواقع هو بعيدٌ كل البعدِ وفقيرٌ كل الفقر إلى (المعلومة) ، التي تجعل منه كاتباً موجهاً للعقول وصانع للمحتوى، تجد تلك الطائفة تُدَبْجُ المقالات تارة من هنا وتارة من هناك بأسلوب غاية في الركاكة والسطحية وعدم الموضوعية، دون أي تناغم في المعاني أو تناسق في المفردات، وأحياناً يقومون بإعادة صياغة نصوص وأفكار قديمة لأساتذة أفاضل صدروا العلوم للدنيا ونهل الجميع من علمهم، ليوصلوا لمتابعيهم وليوهموهم أنهم أصحاب عِلم وأن وجودهم في هذه الحياة ذا قيمة.
الأمر أشبه بالسراب يحسبه الشخص الظمئان ماءً، حتى إذا اقترب منه لم يجد شيء سوى الحسرة على المجهود الذي أضاعه في رحلته نحو تفسير تلك السموم الذي يبثها لنا كلا النوعين (المالص) و (البالص) ، والذي كثر انشارهم في مجتمعنا هذه الأيام، فما عاد أحد يعرف للكتب قيمتها باتت الأحذية تباع خلف زجاج لامع في محلات فخمة، وأصبحت المؤلفات والمجلدات تباع على الأرصفة بالكيلو؟!
ما سبق له من النتائج السلبية على المجتمع ما تشيب له الرؤوس وتضيق به النفوس، انصرف الناس عن الكتب فزادت نسب الأمية حتى بين فئات المتعلمين، أصبحت العقول خاوية فريسة سهلة لكل من يحمل أفكاراً ضالة، عقول ممهده جاهزة لاستقبال بذور التطرف والتشدد والإرهاب والتغريب وغيرها من السموم التي تبث هنا وهناك دون أي مقاومة، كيف لا وسلاح الوعي مفقود؟!، الوعي الذي تساهم (النخبة) في تكوينه…تخيل لو كانت المشكلة في “النخبة” لا في فئات المجتمع!!! تخيل حجم الكارثة!!.
لابد للدولة أن تكثف جهودها في محاربة الجهل المقنع الذي يرتدي ثوب المعرفة، وأن يتكاتف المثقفون مع مؤسسات الدولة لوضع خطة للرقي بالوسط الثقافي في مصر، والعمل على فلترة المؤلفات ونشر الجيد منها وحجب الرديئ، وأيضاً وضع خطه شاملة للإستفادة من التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الإجتماعي في نشر الوعي الثقافي لدى فئات المجتمع المختلفة، للحصول على قارئ واعٍ بطبعه قادر على تمييز الجيد من الخبيث والإستفادة من كليهما، وهذا لن يحدث إلا بالتعاون والإرادة وكما قال الشاعر التونسي “أبي القاسم الشابي” (إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر) فبالإرادة يتحقق المستحيل.
علينا جميعاً أن ندرك مدى قوة الثقافة والمثقفين، ومدى أهمية أن يكون لديك فرداً واعياً ملماً، الأمر الذي استشعره “جوزيف جوبلز” وزير الإعلام النازي الذي قال :(كلما سمعت كلمة مثقف أو ثقافة تحسست مسدسي؟!)، هنا تكمن قوة الدولة الحقيقية في فردها الواعي المثقف، والذي هو أشد فتكاً من أي سلاح كما أشار “جوبلز”، ولن تتحقق الثقافة إلا بعودة الكُتَابِ (الخالصين) ، (المخلصين) وقطع دابر نوعي (البالص) و(المالص)، (بالعلم والإرادة) حتى نعود كما كنا وكما نحن أسياد كل الشعوب…نكتب لنرتقي بعقول الأمم ونحيا ويحيا بنا القلم.
2021-03-18