كتب :عبدالرحمن عامر
في ساحة “السيد البدوي” بمدينة طنطا، تتجلى أعقد صور التدين الشعبي في مصر، حيث يلتقي الوجد الصوفي العريق بسيل جارف من الممارسات التي تخضع للجدل الفقهي والاجتماعي، المشهد هنا ليس مجرد “مولد” موسمي، بل هو لوحة بالغة التركيب تُطرح فيها الأسئلة الكبرى عن ماهية الإحسان، ودور الولي، وحدود المحبة تحت قبة السماء، وبين آلاف الخيام، تتشابك مرويات الجهاد وكرامات الأولياء مع إيقاع الطبول وصيحات “المجاذيب” مُحدثةً استقطابًا حادًا يمتد صداه من أروقة الأزهر الشريف إلى جنبات “السوشيال ميديا” الصاخبة، فبينما يرى البعض في هذا التجمع مصداقًا لقول الحق سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ [الأنفال: 63]، مشيدين بحالة التألف والمنافع التي يمثلها المولد، يرفع آخرون راية الرفض، محذرين من مخالفات تصطدم بـ”صحيح الدين” وتُشوه صورة التصوف الأصيل، لا سيما مع شيوع ظواهر لا تمت للإسلام بصلة، هذا التحقيق يغوص في العمق مستنطقًا نخبة من علماء الدين والإعلام والأكاديميين، ليُجلي الفوارق الدقيقة بين التصوف كعلم يمثل ركن “الإحسان”، وبين الارتجال الذي حول الموالد إلى مادة خصبة للإثارة والسخرية، محاولًا رسم خط فاصل دقيق بين ما يرضي الضمير الديني وما يُجافي روح الشريعة، في معركة تتجدد فصولها كل عام.
مكانة البدوي وفقه المولد
في مستهل حديثه، بيّن الشيخ “أحمد مكي الأزهري”، إمام وخطيب مسجد الإمام الحسين، أن “السيد أحمد البدوي” من كبار الأقطاب والأولياء ومن كبار علماء عصره، وهو معدود من أئمة أهل السنة والجماعة الذين كانو يربون المجاهدين ويسلكون بهم الطريق إلى الله، ومما يذكر في سيرته أنه كان يشارك بتلاميذه في الجهاد ضد الحروب الصليبية وكانوا يواجهون العدو وتبعاً لذلك، فإن السيد البدوي رضي الله عنه بتمكنه في الولاية ورسوخه في درجته من الله، “ألقى الله محبته في قلوب الناس” مستشهداً بالحديث الشريف: “إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل: يا جبريل إني أحب فلانًا فأحبه، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه” [متفق عليه]. وبناءً عليه، كلما رسخت مكانة الولي عند الله كلما رسخت وزادت في قلوب الناس وهذا الذي يفسر مكانته الخاصة، فالمولد ذاته مكان للصغير والكبير والقاصي والداني والعالم والعامي، كلهم يحتفلون بمولد “السيد البدوي” ويحتفلون به تقربًا إلى الله تعالى، والأصل في المولد أنه مناسبة يجتمع فيها الناس على الخير والذكر وإطعام الطعام والترابط، ومما يذكر تاريخياً أن هذا الاحتفال كان يحدث في عصر السيد البدوي ومهمته شحذ همة الناس للجهاد، ثم تطور ليصبح عادة لدى الناس ليذكروا نعمة الله عليهم بأن جعلهم محبين لله ولأوليائه لذلك، “فالاحتفال بالمولد ليست مجرد عادات بل هي تطبيق عملي لمبادئ الإسلام” وهو المنصوص عليه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما سُئل أي الإسلام خير قال: “إفشاء السلام وإطعام الطعام” [صحيح الجامع].
التصوف الإحساني
وفيما يخص ضوابط الاحتفال والرد على المخالفات، أكد الشيخ “أحمد مكي الأزهري” أن الأصل عندنا أنه يجب أن يكون أي احتفال أو فاعلية موافقة للكتاب والسنة، وأي فعل يختلف معهما فإننا نرفضه كائنًا من كان صدر منه هذا الفعل، وما يحصل داخل الموالد من عادات أو مخالفات فإن هذه خارجة عن منهج الولي المحتفل به وخارجة عن مذهب التصوف الصالح، والذي هو العلم المعبر عن مقام الإحسان المشار إليه في حديث: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [مسلم]، وأي إسفال أو مظاهر تحصل في أي احتفال لأي ولي، فإن هذه مخالفات ونحن نعارضها ونحاول بكل الصور أن نمنعها لأنها تشين التصوف، فالأصل في الموالد أنها وسائل لجمع الناس على الخير وعلى الحق، والمولد في حد ذاته، وبغض النظر عن التسمية، فهي تحصل في أيام غير اليوم الذي ولد فيه الولي، ولكن المراد بها جمع الناس على الخير وعلى العلم والذكر والتعارف والتألف وتثبيت الإخوة في الله، وهذا كله يساهم في نشر الأفكار العلمية الصحيحة وعليه، فإن التصوف ليس مجرد بديل للدين الوسطي بل هو علم معبر عن مقام الإحسان في الدين، فالإسلام تم التعبير عنه بعلم الفقه، والإيمان تم التعبير عنه بعلم العقيدة، والإحسان تم التعبير عنه بعلم التصوف، وبالتالي “من خالفه فهو ليس على التصوف في شيء” ولا ينبغي أن يُلصق به ما ليس منه، فقضايا الأضرحة والقبور والموالد “هذا ليس تصوفًا، فكتب التصوف الكبيرة لم تذكر هذه الأشياء أبدًا” وينتقد “مكي” الإعلام، قائلاً: الإعلام في عصرنا هذا قلما يبحث عن الحقيقة وإنما يبحث عن التريند والإثارة وليس لديهم هدف الوصول للحق، فيطرحون ما يثير الجدل ويؤجج العامة، فهل الحكومة دفعت لهم مثلا؟ لا.. بل أتوا حبًا في الله وكرامة لهذا الولي، فالمجتمعون تجتمع قلوبهم على خلاف مذاهبهم ومشاربهم، ولا ينبغي سحب السلبية على العادة كلها، فالحرام لا يحرم الحلال بل أعالج السلبيات مختتما بالدعوة لفهم التصوف من مصادره الأصلية وليس الدخيلة، لأن ذلك يضيع عليكم ركنًا هامًا من الدين وهو ركن الإحسان.
موروث العادات
ومن الزاوية الفقهية، أفادت الدكتورة “فتحية الحنفي”، أستاذ الفقه المتفرغ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالقاهرة، بأن الاحتفال بالموالد لم يكن موجودًا في عهد الصحابة، وأن أصله يعود إلى “العادات المصرية القديمة”، وهو موروث شعبي ،فالموالد تمثل مهرجانًا للعلم والثقافة والمعرفة، إذا لم تتنافَ مع صحيح الدين، وأبرز الممارسات التي تتعارض مع تعاليم الإسلام تتمثل في: التمسح بالحديد المحاط بالمقام، التوسل بصاحب المقام وكأنه الواسطة بينه وبين الله تعالى، والممارسات الخاطئة في إعطاء القدسية لبعض صاحب الطريقة، فضلًا عن الذكر بطريقة خاطئة مما يقولون عنه أنه “مجذوب”، وكلها ممارسات أدت إلى “خلط في العقيدة الصحيحة” وفي معرض تفصيلها، أوضحت أن التصوف الأصيل هو الذي يهدف إلى تزكية النفس والأخلاق الحسنة من خلال الالتزام بالكتاب والسنة فهذا لا شيء فيه، بينما ما اشتمل على شعوذة وغلو فهو حرام ومرفوض ، كما أن إقامة الموالد مسألة خلافية بين العلماء، لكن الممارسات الخاطئة التي تحدث اليوم هي بعيدة كل البعد عن صحيح الإسلام، مشددة على أن هناك واجبًا كبيرًا على مؤسسة الأزهر متمثلة في وزارة الأوقاف للحد من هذه الممارسات، مختتمة بتأكيدها على ضرورة الاقتداء بالأولياء في تقواهم، ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: 62]، “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد”، مؤكدة أنه “لا ثواب ولا عقاب” على من لم يذهب لإحياء الموالد.
خطر الاستيلاء السلفي
وبنظرة معمقة في أصول الدين، ذهب الدكتور “محمد عزب”، أستاذ أصول الدين، إلى أن المعنى الحقيقي للتصوف هو التخلق بالأخلاق الفاضلة، مستشهدًا بقول “الجريري”: التصوف هو الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دني” وفي تقييم قاسٍ لواقع الموالد، أكد أنه لايوجد فيها أي فرصة لتجديد معالم الإيمان ولا الأخلاق، حيث أصبحت مهرجانات وخرجت تمامًا عن مسألة الاجتماع لتذكر أخلاق وقيم وسلوك المحتفل به، فمحبة الأولياء الحقيقية هي اعتقاد ببشريتهم، كما جاء على لسان بعضهم والعلماء دورهم الأساسي هو تبيين المراد بالتصوف، وهو استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد، والصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح، وانتقد “عزب ” عدم انشغال الإعلام بقضية التصوف بعمق، مشيرًا إلى أن التصرفات التي يتصرفها أرباب الموالد هذه الأيام أعطت فرصة للتيار السلفي ليشن هجومًا على التصوف ويرمي أهله بالجهل، وهذا ما مكن هذا التيار من قلوب العامة، فتنقية التصوف ضرورة للتصدي للتيارات السلفية التي تحاول النيل من المجتمع أو يحاول الاستيلاء على تدين العامة، واختتم بنصح الشباب بالعودة إلى مصادر التصوف الأصلية كالرسالة القشيرية، وطبقات السلمي لمعرفة الحقيقة الدامغة.
السجال الإعلامي
وفيما يتعلق بتأثير التغطية الإعلامية، أشار الدكتور “محمد مهني البحراوي”، أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر، إلى أن الإعلام التقليدي غالبًا ما يتناول الموالد من زاوية احتفالية سطحية، بينما تنقل السوشيال ميديا المشهد بعفوية وبدون فلترة، ما يمنحها مصداقية في نظر الجمهور، لكنه في الوقت ذاته محتوى غير منضبط يغيب عنه السياق الديني والبعد الثقافي الحقيقي للموالد، فالناس تميل لتصديق ما تراه مباشرة على المنصات الرقمية لأنها تشعر أنه أقرب للواقع، والنقاش حول الموالد هو غالبًا ضجة لحظية أكثر من كونه وعيًا حقيقيًا، حيث تُبنى التريندات على اللقطات المثيرة الخارجة عن المألوف، وهذا التريند يُستغل غالبًا في صناعة جدل وسخرية عن بعض المجاذيب، معتبرا أن المستقبل يحمل فرصة لتحويل الموالد إلى مهرجانات روحية وثقافية إذا تدخل الإعلام المهني بروح التنوير، مطالبًا بأن يتحول الإعلامي من ناقل للمشهد إلى محلل للسياق يوضح خلفية الولي وتاريخ المولد والبعد الإنساني.
المولد كمحرك اجتماعي
ومن منظور علم الاجتماع، أضافت الدكتورة منى عويس، مدرس علم الاجتماع بكلية الدراسات الإنسانية بالقاهرة، أن المولد يمثل في جوهره ضرورة اجتماعية ونفسية، فهو مساحة وجدانية حيوية للتعبير عن محبة الأولياء، ويزود الطبقات البسيطة بمتنفس اجتماعي يكسر عزلة الحياة اليومية الضاغطة، والتجمعات الكبرى في الموالد تؤدي وظيفة اجتماعية هامة في تثبيت الهوية الشعبية، وتقوية الروابط الاجتماعية بين القادمين من مشارب مختلفة، ما يجسد حالة من التألف تتجاوز الخلافات المذهبية، ولا بد من التفريق بين جوهر الظاهرة كدافع روحي واجتماعي، وبين الشكل المنحرف للممارسات الشاذة، فالعلاج الفعال يكمن في التنظيم الواعي الذي يضمن استمرار هذا الموسم الثقافي والروحي والاجتماعي، مع توجيه الوعي الجمعي بعيدًا عن الغلو والانحرافات التي تُسيء إلى تراث الأولياء الصالحين.
إن ملف “مولد السيد البدوي” يظل معلّقًا بين السماء والأرض؛ بين قدسية الإحسان على لسان العلماء، وفوضى المشهد التي ينقلها الإعلام، الخاتمة هنا لا تجد حلًا نهائيًا، بل تضع يدها على عِلّة الاختلاف الذي يقسم الشارع، فكيف يتسنى لنا أن نُبقي على عادة طيبة تحقق التآلف، بينما تتسرب إليها سلبيات تصل إلى حد المساس بالعقيدة؟
التساؤل الأكبر يظل حول الدور المنوط بالمؤسسات: هل يكتفي الأزهر ووزارة الأوقاف بإصدار التصريحات، أم أن الأمر يتطلب تدخلًا جذريًا لتنظيم المشهد ثقافيًا ووعظيًا؟ والأكثر إثارة للعلامات الاستفهام، هو مشهد وجود القادة السياسيين ورجال الدولة في هذه الموالد سنويًا، في وقت يُثار فيه اللغط حول ممارسات تخرج عن صحيح الدين، فهل يُعد هذا الحضور اعترافًا ضمنيًا بقبول التجمعات الشعبية على علاتها، أم هي محاولة لاحتواء البعد الشعبي للتدين، حتى لو كان مصحوبًا ببعض المخالفات؟ إن شفاء علة الناس واختلافهم لن يتحقق إلا بفصل حاسم بين روح التصوف النقي الذي يمثل ركن الإحسان، وبين الارتجال الذي يشوهه، على الجميع أن يدرك أن الحرام لا يحرم الحلال، وأن التركيز يجب أن ينصب على علاج السلبيات بتنوير العقول وتحويل المولد من مصدر للجدل إلى مصدر للتثقيف الروحي والاجتماعي، قبل أن تُسحب السلبية على العادة بأكملها، وتفقد مصر جزءًا من تراثها الروحي والاجتماعي المعقد.
 جريدة الدولة الآن :: لن يفوتك خبر ::
جريدة الدولة الآن :: لن يفوتك خبر ::
				 
			 
		 
											 
											 
											